مقالة من د. محمد يحيى حول وصول العرب الى أمريكا ورسم خرائطها قبل كولومبوس لمؤرخ العلوم فؤاد سزكين

مقالة من د. محمد يحيى حول وصول العرب الى أمريكا ورسم خرائطها قبل كولومبوس لمؤرخ العلوم فؤاد سزكين

أن قضية الوصول الى أمريكا أو اكتشافها، كانت وما زالت مصدر جدل محتدم بين الأوساط العلمية والغير علمية على حد السواء. تستعرض هذه المقالة مكانة علم الخرائط والجغرافيا العربية-الإسلامية ودورها في تطوير هذا العلم خلال حقبة زمنية تجاوزت 800 عام وأثرها على نشوء علم الخرائط في الغرب والشرق. هذه الحقبة المبدعة التي أهملها تاريخ ألعلم، بل تعرضت هي وسائر العلوم العربية-الإسلامية الى الطرد من التاريخ.  كما وتستعرض هذه المقالة بأقتضاب شديد نشوء العلوم التي مكنت من تطوير علم رسم الخرائط مثل علم الجغرافيا الرياضية والفلكية وتقنيات الرصد البحري وكيف مكنت العرب من الوصول ليس فقط الى القارة الرابعة وإنما الخامسة بما فيه مضيق ماجلان (ذنب الثعبان) وجزر الكاريبي (جزر الرجال والنساء) ورأس الرجاء الصالح (رأس دياب) والأقطاب وأن لهم يعود السبق لهذا الاكتشاف التاريخي الكبير.

لقد احتدم النقاش حول الموضوع في العقدين الأخيرين على إثر نشر كتاب تحت عنوان >>1421: العام الذي اكتشفت فيه الصين العالم<< من تأليف كيفين منزيس (ِCaven Mensis).وترجم الكتاب الى لغات عديدة سنة .22004, وتم عرض محاضرة منزيس أمام الجمعية الجغرافية البريطانية وبثها على أكثر من 38 دولة لتتسنى مشاهدتها من قبل قرابة مليار أنسان.
 استند منزيس على خرائط يعود تاريخ صنعها الى القرن الخامس والسادس عشر م وهي.
1.      خريطة زوانه بزيجانو، رسمت عام 1424، موجودة في مكتبة جيمس بيل – منيسوتا، اميريكا، اكتشفها ارماندو كورتيساو عام 1954.
2.      خريطة فرا ماورو، رسمت عام 1457، ولربما تعود هذه الخريطة الى خريطة أخرى وصلت عن طريق نيقولا كونتي الذي أسلم وقضى عشرات السنين في الدول العربية والإسلامية.
3.      خريطة كانكنيدو الصينية-الكورية، جامعة ريوكوكو في اليابان، تعود للفترة ما بين 1524-1564
4.      خريطة العالم 1428 م، احضرها دوم بيدرو ابن ملك البرتغال عام 1557 من البندقية.
5.      خريطة فالدسيمولر 1507 م.
6.      خريطة بري رئيس العثمانية المذهلة 1501 م. ولقد ساهمت هذه الخريطة بشكل حسم بحل لغز اكتشاف أمريكا.
فقام مؤرخ العلوم فؤاد سزكين بالرد على مزاعم منزيس وتفنيدها وأثبات وصول العرب الى القارة الأمريكية عدة قرون قبل كولومبوس وأن لا علاقة للصينيين بهذا الاكتشاف لا من قريب ولا من بعيد، مبينا أن جميع هذه الخرائط المذكورة هي عبارة عن نسخ تعود للأصل العربي المفقود، والقى محاضرة تحت عنوان “وصول العرب الى أمريكا ورسم خرائطها قبل كولومبوس”، أمام البحرية المصرية في القاهرة وأخرى على البحرية التركية عام 2014.
فالسؤال المركزي هو: أي من البيئات الثقافية كانت قادرة في العصور الوسطى على أبداع سبل علمية تمكن من رسم خريطة للعالم، مما يتطلب الخوض في التطور العلمي في تلك الفترة في مجال الجغرافيا والرياضيات والفلك والفيزياء وعلم الأثار العلوية او المترئولوجيا والتكنولوجيا التي استعملوها في صنع الآلات والأدوات المختلفة.
باقتضاب، استعرض هنا اهم محطات هذه التطورات في العلوم العربية:
الجغرافيا: حصل الانقلاب الجغرافي في زمن المأمون إذ قام الجغرافيين العرب في زمنه وضع تصور مغاير للتصور اليوناني عن الكرة الأرضية، فبحسب خارطة مارينوس وبطلميوس تتكون قشرة الأرض من اليابسة وما المحيطات والبحار سوى أحواض مائية فيها، أما فلكي المأمون في القرن التاسع م فقالوا إن الكوكب مائي واليابسة هي عبارة عن جزر، ومن هنا نشأت نظرية البحر المحيط. فالخرائط العربية مميزه بالحزام الأزرق الذي يحيط بالكرة الأرضية تجسيدا لفكرة البحر المحيط.
علم الجبر، اخترعه العرب وقاموا بدمجه مع الجغرافيا اليونانية فنشأ علم جديد وهو علم الجغرافيا الرياضية أو ما يسمى علم الكارتوغرافيا أو علم رسم الخرائط. فقام أبو الريحان البيروني في القرن الحادي عشر بأول قياس رياضي جغرافي بين مدينة في أفغانستان وبغداد فتوصل الى نتائج مذهلة قريبة من نتائج عصرنا كما وقام بقياس محيط الكرة الأرضية بفارق 200 ميل عن القياس العصري، مستخدما علم المثلثات والمثلثات الكروية. هذا على اليابسة أما على صعيد البحار فالأمر تطلب معارف جديدة لكي يتمكنوا من قياس الأبعاد ورسم خطوط العرض والطول. وهنا لا بد من التطرق الى أول الة رصد بحري طورها العرب وهي:
 البوصلة، لقد عرف الصينيون الابرة المغناطيسية وانها تشير الى جهة الشمال، فأخذها العرب واستعملوها بالملاحة البحرية، فقاموا بوضعا بعلبة فيها ماء وتثبيت الابرة المغناطيسية على حامل قد يكون ورقة شجر مثلا وبعد سلسلة من التطورات قام الملاح العربي الشهير ابن ماجد بتطوير بوصلة مكنت من تصميم مؤشر الاتجاهات فوق العلبة وينسب هذا الاختراع للبرتغالي غاردين.
الإسطرلاب، وهي الة فلكية قادرة على القيام بألف عملية حسابية ويطلق عليه كمبيوتر العصور الوسطى وطورها العلماء العرب والمسلمون خلال مئات السنين، والإسطرلاب مكون من: أم الإسطرلاب، والصفائح، والعنكبوت، والفرس، والهدفة. مكنت مستخدم الإسطرلاب من تحديد مكانه وزمانه سواء على اليابسة أو في عرض البحر وبالطبع فأن نقاط الارتكاز هي النجوم كنجم الشمال مثلا.
الثلاث خشبات: وهي الة فيها ثلاث مربعات مثبتة بشكل متباعد على محور بحيث أن أحجام الخشبات الثلاث تبدأ من الأكبر ثم الأصغر وقابلة للتحرك الى أقرب أو ابعد تباعا لرصد أو رؤية الهدف ومزودة بهدفة للرؤيا كما هو حال المنظار.
أما على صعيد وسائل النقل البحري فلقد طور العرب حوالي 950 م السفن العابرة للمحيطات وهي:
الداو: هي سفينة مصنوعة بالحياكة، فمثلا سفينة بطول 18،5 متر تستلزم عشرون ألف قطبة وحبال بطول 200 كم جلبت من مدغشقر. ولقد تمت عملية بناء أول سفينة من هذا النوع في مدينة الحلة بالعراق الواقعة ببداية شط العرب.
 بهذه السفن المتينة القادرة على الصمود أمام أمواج المحيط العاتية وبتوجيه دقيق من الآلات الرصد الثلاث تمكن العرب من تحديد ألبرور وهم بعرض البحر بدقة كبيرة وكذا الأمر على اليابسة مما مكنهم من بناء برامج لرحلاتهم وتحديد أهدافهم قبل الإبحار. أن تطور رسم خطوط العرض والطول على الخرائط يشكل لب الموضوع وله كلمة الفصل في الحكم على الخرائط ومصادرها وبالتالي لمن يعود أصل تلك الخرائط.
أن هذا التطور في العالم العربي والإسلامي استغرق مئات السنين فهل للقارئ أن يتصور انه بشكل فجائي قامت أساطيل صينية خلال سنتين من ولوج بحار ومحيطات العالم بما فيه الأقطاب مع الزعم أن الخراطين كانوا على متن تلك الأساطيل ورسموا خارطة العالم أثناء الرحلة وكل ذلك خلال سنتين؟ أي من سنة 1421 الى سنة 1422. فهذا الادعاء لا يرقى الى مستوى بحث علمي وينم عن جهل كبير بتاريخ علم الخرائط.
 لقد طرق منزيس كل سبيل لتعليل وجود خريطة للعالم لدى مختلف الشعوب ما عدا العرب، مع أن خريطة العالم تشمل مصطلحات عربية كرأس دياب وهو رأس الرجاء الصالح، وجزر النساء والرجال وهو مسمى عربي لجزر الكاريبي ففي ذلك الارخبيل كانت جزيرة تواجد عليها حوالي أحد عشر الف امرأة وهذا يذكرنا بالمسمى الإنجليزي لتلك البقاع لاحقا وهو جزر العذارى (Virgin island). كذلك ذنب الثعبان وهو مضيق ماجلان. كذلك خريطة تبين سواحل سيبيريا مع انهارها التي تصب في بحر الشمال مع تبيان مضيق بيرنغ، وهذه الخريطه رسمت عام 1507 من قبل فالدسيمولر الذي لم يرتحل خارج بلده أصلا.
فقام سزكين بمناقشتها خارطة تلو الأخرى فيتناول تاريخ صنع كل خريطة وخريطة ومن اكتشفها وما هي المعلومات المتوفرة فيها بعد ذلك يقوم بالخطوة الرئيسية في بحثه وهي: هل المعلومات المتوفرة بهذه الخرائط الأصلية كما زعم منزيس اصليه فعلا أم أنها منسوخة عن خرائط تعود الى فترة أقدم بكثير من القرن الخامس والسادس عشر. وهنا بيت القصيد.
يقول فؤاد سزكين في سياق رده على منزيس، “صحيح أن المؤلف، وهو قائد غواصة متقاعد، يقول أن كتابه معد للجمهور الواسع وليس للدوائر العلمية، إلا أن كلامه المتواضع هذا يتناقض مع ما ورد في كتابه  بزعمه انه خبير رائد في تاريخ الكارتوغرافيا”.
في الفقرات التالية تعرض هذه المقالة بإسهاب متعمد، بعض تعقيبات سزكين على منزيس وكذلك على مصادره، بغرض توضيح طبيعة الجدل القائم حول هذه القضية، فيقول:
وفقا لمنزيس فأن الشيء الذي جذب انتباهه بصورة خاصة هو خريطة من مجموعة السير توماس فيليبس (Thomas Phillips) الموجودة في مكتبة جيمس فورد بيل (James ford bell) في ولاية مينيسوتا (أمريكا). انها تحمل اسم “زوانا بيزيجانو (Zuane Pizzigano)، وهو خرائطي من البندقية، ويعود تاريخها الى سنة 1424 م. والامر الذي استرعى اهتمام منزيس3 ظهور مجموعة من أربع جزر في المحيط الأطلسي الغربي اسماها (ستانازيس)، (انتيليا)، (سايا) و (ايمانا) فاصبح مقتنعا ان انتيليا وساتانازيس تتطابقان مع جزيرتين في البحر الكاريبي هما بويرتوريكو وجواديلوب. يضيف سزكين “هذا يعني ان شخصا ما وصل حوالي سبعين عاما قبل وصول كولومبوس الى منطقة البحر الكاريبي، وقد اكتشف هذه الجزر بدقة، فاصبح منزيس معتقدا اعتقادا راسخا انه وجد برهانا قاطعا على ان حوالي سبعين سنة قبل كولومبوس شخصا ما قد وصل الى البحر الكاريبي وأسس هناك مستعمرة، وتسائل هل من الممكن ان يكون هذا الشخص من البرتغاليين, ولكنه استبعد هذا الرأي4.
بصرف النظر عن ان ظهور هذا الارخبيل الذي كان موضوع نقاش منذ نحو 200 عام، تجدر الإشارة ان >>ارماندو كورتيساو<< (Armando Cortesae) وهو الذي اكتشف خريطة >>زوانه بزيجانو<< التي تعود لعام 1424 والتي ارفقها في كتابه المنشور سنة 1954 بعنوان:
The national chart of 1424 and the early discovery and cartographical representation of America. (a study on history of early navigation and cartography. Coimbra. 1954)
(المخططالوطنيلسنة 1424 والاكتشافالمبكرلأمريكاورسمخريطتها: دراسةفيتاريخالملاحةوعلمالخرائطالمبكرة،كويمبرا, 1954)
وهو اول من أعرب عن الزعم القائل بأن البحارة البرتغاليين هم الذين جلبوا الى أوروبا المعارف المتعلقة بالبحر الكاريبي وربما أيضا للقارة الامريكية قبل 1424 م5.
وأثار هذا الرأي الذي يقول به كورتيساو ودفاعه عن موقفه هذا في كتابه history of Portuguese cartography ,6 مناقشة واسعة، كان بإمكان منزيس بالتأكيد الاطلاع عليها وبالأخص من خلال تعليق توني كامبل (Tony Cambell)7 على كتاب “تاريخ الكارتوعرافيا” لكورتيساو.
ومع هذا، فبعد مزيد من التفكير والبحث توصل منزيس الى الاعتقاد بأن البرتغاليين من المستبعد أن يكونوا هم المكتشفين الأوائل لجزر البحر الكاريبي:8 ” لا بد وان كانوا بحارين ماهرين في الملاحة الفلكية وانهم طوروا طريقة لقياس خط الطول الجغرافي الذي يمكنهم من رسم خرائط لا تعيب قيمة درجة الطول سوى أخطاء ضئيلة إلا انه لا يعتد بها”. 9
يستطرد منزيس فيتوصل حسب تقديره الى النتيجة التالية “ولم يكن في ذلك الزمن سوى بلد واحد كان يتوفر فيه العلم, والمواد العلمية والخبرة البحرية للقيام برحلة استكشافية بهذا الحجم. وكان هذا البلد هو الصين – لكن وجوب الاتيان بأدلة دامغة لدعم الافتراض القائل بأن اسطولا صينيا قام بأستكشاف العالم قبل ان يتحرك الأوروبيون, فهذه الفكرة كانت تخيفني. 10 هذا هو رأي منزيس.
يستطرد منزيس بأجتهاده فيزعم انه” اكتشف عدة اساطيل صينية قامت برحلات استكشافية في القرن الخامس عشر, وأن اخر اسطول منها ابحر عام 1421 م. وعادت السفن التي نجت من الرحلة عام 1423 م. ويشير الى عدم وجود تقرير يكشف البقاع التي كانت بها خلال فترة السنتين ولكنه مع ذلك يضيف ان الخرائط تبين ان الرحلة لم تقتصر على الإبحار عبر رأس الرجاء الصالح وعبر الأطلسي ولكن بعد معاينة الجزر التي رأيتها على خريطة بزيجانو, العائد تاريخها الى سنة 1424, بل انها قامت باستكشاف المنطقة القطبية  الجنوبية والشمالية وامريكا الشمالية والجنوبية ومن ثم استراليا عبر المحيط الهادئ وبذلك تسنى لها حساب خطوط الطول والعرض ورسم خريطة الأرض والسماء بنفس الدقة”.11
بغض النظر عما نسبه منزيس من هذه الإنجازات للصين، فبالفعل كانت هنالك سبع اساطيل صينية قامت بحملات عسكرية بعصر الامبراطور تشنغ تزي (ِcheng zi) والمعروف باسم (yong le) الى الشعوب “الغربية البربرية” لتجديد العلاقات الدبلوماسية معهم ولدفع الجزية ودونت هذه الحملات البحرية التي وقعت في الفترة ما بين 1405-1433 م. في الادب الصيني فأقدم الاخبار المبكرة عن هذه الحملات وردت من احد الناجين الذين عادوا الى الصين وهو مسلم صيني يعرف العربية اسمه ما خوان “ma chuan”, له كتاب بعنوان “بينغ ياي شنغ لان” “ying yai cheng lan”12 أي “بحث شامل لسواحل المحيط” وتم العمل بأطار علم الصينيات على تحليل هذه النصوص في القرن التاسع عشر وتبين بشكل واضح الطرق التي سلكتها الاساطيل والموانئ التي رست من خلالها في 36 بلد في انحاء المحيط الهندي  جنوبا حتى جزيرة بورنيو وتيمور الشرقية وزنجبار ولكنها لم تصل حتى مدغشقر وأستراليا13 ولم تشمل أي خرائط فقام المؤرخ “ما يوان يي” “Mao Yuan Yi” بإعادة صنع خريطة بحرية بعنوان “وو باي جي” أي “الوقائع العسكرية الكاملة”, سنة 1651 م.14
وأشار عالم الصينبات جورج فليبس “George Phillips” عام 1885 ان “درجات العرض الواقعة ما بين الساحل الغربي للهند والساحل الشرقي لافريقيا مبنية تبعا للنجم القطبي الشمالي وعلى ان ارتفاع النجم محسوب بالاصبع والاثمان والتي يسميها الصينيون تشي “chih” وتشيو “chio”.15
من خلال قراءة مقدمة ” ج. ت. رينو” (J.- t. Reinaud) لكتاب “تقويم البلدان” للجغراقي العربي ابي الفداء لاحظ فليبس ان هذه التسميات تتوافق مع الاصطلاحات العربية (اصبع) و (زام) المستخدمة عند الملاحين العرب في المحيط الهندي.16 ونشر فليبس الخريطة التخطيطية المرسومة في كتاب “وو باي جي” “Wu Bei ZHI” أي “الوقائع العسكرية الكاملة” الانفة الذكر ثم أعاد طبعها يوسف كمال.17
من هنا يطرح السؤال نفسه، كيف استنتج منزيس ان الاساطيل الصينية عبرت الأطلسي عبر رأس الرجاء الصالح بالإضافة الى رسم هذه المناطق المجهولة بفترة لا تتجاوز السنتين، على الرغم من توفر معلومات واضحة عن مسارات هذه الاساطيل والأنشطة التي قامت بها (من اجل اخذ لمحة عامة عن مسارات الاساطيل، انظر الشكل 2) فهي لا تترك أي مجال لاي تخمين لاي رحلات سواء جنوب او غرب موزبيق. وفي الحقيقة فأن امبراطور الصين الانف الذكر اوفد بعثات صداقة الى البلدان العربية والإسلامية وكانت مساراتها بمحاذات شواطئ تلك البلدان سواء على سواحل شرق افريقيا او حوض المحيط الهندي عامة.
يبد ان ما شجع منزيس على الاخذ بأعتقاده هو تفسيره التعسقي لعدد اخر من الخرائط.18 لهذا الغرض سافر منزيس الى البندقية ليطلع على خريطة رسمها > فرا ماورو < (Fra Mauro) في سنة 1457 م. (الشكل 3) فوجد على الخريطة نصا اثار انتباهه: ” قرابة سنة 1420 م. ابحرت سفينة هندية، او ما يعرف باسم (جنك)، من المحيط الهندي الى – جزر الرجال والنساء – فمرت برأس دياب، وبين الجزر الخضراء وبحر الظلمات، متوجهة صوب – الغرب – (algarve) “لاحظ: الغرب = algarve”، ولمدة أربعين يوما لم يجدوا شيئا سوى الهواء والماء”.19
فتسائل منزيس كيف حصل > فرا ماورو < على هذه المعلومات ومن اين كان يعرف شكل  >الجنكات < وانها ذات رأس ثلاثي الشكل؟20 مع العلم انه كان يعرف اسم الرحالة > نيكولو دا كونتي < (Nicolo da Conti) من البندقية التي عاد اليها حوالي سنة 1444 م بعد إقامة قي سوريا، حيث تعلم العربية واعتنق الإسلام، وقام برحلات طويلة في ايران والهند وجنوب شرق اسيا. واعتقد منزيس ان > نيكولو دا كونتي < لا بد له ان سافر مع اسطول صيني لبعض الوقت وانه حصل من خلال رحلاته تلك على خريطة للعالم استخدمها > فرا ماورو < فيما بعد كنموذج لخريطته. وتجدر الإشارة هنا الى ان تقرير  > كونتي < عن رحلته يتناقض هو الاخر مع عودته المزعومة مع اسطول صيني في سنة 1420- 1421 م. بحسب مؤرخي الجغرافيا فأن رحلة > كونتي < بدأت في عام 1419 م واستمرت حتى حوالي 1444، وأنه اصطحب برحلة عودته زوجته العربية وأولاده، فبلغ البندقية عن طريق سوقطرى وعدن وجدة والبحر الاحمر والإسكندرية.21
لتعزيز بحثه المزعوم وجد منزيس دليلا إضافيا وهو عبارة عن نسخة من الخريطة الصيتية-الكورية المعروفة بخريطة > كانكانيدو <،22 وهي محفوطة في جامعة > ريوكوكو < (Ryukoko) في كيوتو (اليابان) (الشكل 4)
ما يهم منزيس من هذه الخارطة هو تمثيل شكل افريقيا، فخريطة > كانكانيدو < تظهر سواحل شرق افريقيا على مستوى من الدقة بحيث انه > ليس هناك ادنى شك في ان من رسم الخارطة قد مر برأس الرجاء الصالح <. ان الاوروبين لم يصلوا الى جنوب افريقيا الا ستين عاما بعد ذلك، اما على الساحل الغربي لافريقيا لم يصل (حسب زعمه) البحارة العرب قط الى ابعد من جنوب اغادير في المغرب، وهي تقع على بعد ثمانية الالاف كيلومتر من مدينة كيبتاون، ويضيف، اما المغول فلم يصلوا الى افريقيا بتاتا. ويستطرد منزيز ويقول ان دقة خريطة > كانكانيدو < دلتني على ان وصف > فرا ماورو < و > نيكولو دا كونتي < من الممكن جدا ان يكون متطابقا مع الواقع. ومن المحتمل ان ضابطا صينيا تمكن من الوصول الى > غاربين < فرسم خريطة > كانكانيدو <.23
ان خريطة > كانكانيدو < التي اعتمدها منزيس لاثبات نظريته ما هي الا نسخة من النسخ العديدة المنقحة من خريطة العالم التي رسمها > جو سي بن <  (Zhu Si Ben) كبير الخطاطين في عهد امبراطورية >يوان< (Yuan) الصينية-المنغولية. ومما يؤسف له ان اصل هذه الخريطة لم يحفظ لنا، وما هو متوفر عبارة عن طبعة منقحة يعود تاريخها الى 1524-1564 موجودة جنبا الى جنب مع النسخة الصينية التي تعود الى سنة 1402 م ومنذ عام 1938، تم نشر الخريطتين مرات عديدة، وتم فحصها وتقيمهما من قبل العديد من الباجثين. ان العمل الذي قام به والتر فوكس (Walter fuchs)، عالم الصينيات الشهير , منذ عام 1946 يبد أساسيا للوصول الى تقييم واضح.24 تتبع فوكس وخلفه جوزيف نيدهام (Joseph Needham)،26 أصل هذه الخرائط الى حوالي 1300 م، التي تشمل شكل المثلث لجنوب افريقيا والتمثيل الدقيق جدا للبحر الأبيض المتوسط والتي لا بد ان يدهشان مؤرخ الخرائط فمن المسلم به بالنسبة لفوكس ونيدهام ان هذه العناصر التي تتصف بها الخريطة مع الأسماء العربية لحوالي 100 مدينة وبلد محقق حتى لان في أوروبا، و 35 اسما في افريقيا، لا يمكن تعليلها إلا بالمعارف التي كانت موجودة سابقا في العانلم لالسلامي – والامر الغير مؤكد انما هو الطريق الذي تمت عبره انتقال هذه المعارف الى البيئة الصيتية.
الراجح عند فوكس ان معرفة التصوير العربي-الإسلامي لخريطة العالم قد وصلت الى الصين في الوقت الذي وصلت فيه كذلك الكرة الأرضية التي كانت قد أرسلت عام 1267 م، من مراغة، التي كانت آنذاك مقر الإمبراطورية المغولية الغربية الى بلاط قوبلاي خان، مع ست الالات فلكية أخرى. حول الأدوات والنماذج المستوردة من الغرب (أي من اسيا الوسطى)، هنالك قصة مثيرة للاهتمام في فصل من اسرة >يوان< (>يوان< Yuan Shi)، حرره> سونغ ليان <(Song lian) 1310-1381 م. ان المبعوث المكلف بتسليم هذه الالات، المدعو جمال الدين، كان هو أيضا مؤلف جغرافية الإمبراطورية المغولية في خدمة قوبلاي خان على ما يبد. وفي وصف هذه الكرة الأرضية، التي كتب مصطلحها بالخط الصيني “كولا أي ارزه” (Ku-Lai-yi-a-er-zi  والعبارة مستعارة من الفارسي >كرة ارض(<، ذكر انها كانت من خشب وأن المياه السبع كانت ممثلة بأللون االازرق والاخضر، والقارات الثلاث مع انهارها وبحارها باللون الأبيض وكان مرسوم عليها شبكة يحدد بها مساحات المناطق المختلفة ومسافات الطرق.26 ان تجاهل او سكوت منزيز عن كل هذه الأدلة والمعطيات عن جميع ما نشر من أبحاث حول هذا الموضوع منذ عام 1938 لامر مثير للدهشة والاستغراب.
والامر الذي عثر عليه منزيس فيما بعد من خلال “تقصياته” هو تقرير للمؤرخ البرتغالي >أنطونيو غالفاو< (Antonio Galvao) ت 1557 م حول خريطة العالم كان قد احضرها ولي العهد البرتغالي >دوم بيدرو< (Dom Pedro)، شقيق هنري المكتشف، من البندقية عام 1428 م.27 نص هذا التقرير كالاتي [ومن بين الاحداث الهامة للسنة 1428 م ان دوم بيدرو، اكبر أولاد ملك البرتغال ومسافر كثير الترحال، سافر الى إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ومن هناك الى الأراضي المقدسة وغيرها من الاماكن، ومن ثم عاد عن طريق إيطاليا وزار روما والبندقية، حيث احضر منها خريطة للعالم تتضمن جميع أجزاء الأرض. وعلى هذه الخريطة فأن مضيق ماجلان يسمى >ذنب الثعبان< (>كولا دو دراكم< cola do Dragam) ورأس الرجاء الصالح يسمى >جبهة افريقيا< (>فرونتيرو دي افريقا< Fronteira de Africa) وهلم جرا لاماكن أخرى. وقد مثلت هذه الخريطة مساعدة كبيرة لاكتشافات هنري البحار الابن الثالث للملك. يستطرد >أنطونيو غالفاو< فيقول > وقال لي >فرانسيس دي سوسا توارس< (Francis de Sosa Tauares) ان >دون فرناندو< (Don Fernando)، ابن الملك وولي العهد، اطلعه في سنة 1528 م على خريطة تم تصميمها قبل 120 سنة، وكانت في مجموعة [خرائط مدينة] >الكوباسا< (Alcobaza). تبين هذه الخريطة كل طرق الملاحة في المحيط الهندي مع رأس الرجاء الصالح كما هو موضح على خرائطنا في وقت لاحق. وهذا يدل على ان الاكتشافات في الماضي (em tempo passado) أي لا تقل عن اكتشافات اليوم بل لعلها تفوقها<.
يقول منزيز تعليقا على القسم الأول من هذا الاقتباس >كان هذا دليلا لا لبس فيه على انه في سنة 1428 م كان راس الرجاء الصالح >بونا اسبيرنسا< (Bona Esperanca) ومضيق ماجلان الذي يفصل الارجنتين عن ارض النار، مسجلين على الخريطة. كان هذا التصريح ادعاءا جريئا، فكيف اذن يمكن ظهور مضيق ماجلان  على الخريطة قبل اكتشافه من قبل فرديناند ماجلان بما يقرب من قرن؟
هذا الامر الذي يدعي منزيس انه اكتشفه من خلال “تقصياته” في البندقية كان كذلك معروفا منذ فترة طويلة. فقد نبه >يواخم ليليفل< ((Joachim Lelewel، منذ منتصف القرن التاسع عشر، الى تقرير غالفاو30 هذا واستدل منه بحق على انه لا بد من ان تصوير أفريقيا على شكل شبه جزيرة كان معروفا عند البرتغلبين في وقت مبكر من خلال خرائط اجنبية مقتناه. ومع هذا فأن ليليفل يعتبر الإشارة الى مضيق ماجلان على خريطة متداولة  في عام 1428 م، أي في وقت مبكر، شيئا غريبا وينعته كفكرة تخريفية. لكن الوضع الراهن للبحث يقودنا الى تفسير مختلق كما سأبينه ادناه.
ان منزيس دون ان ينتبة الى ان الكلام المنقول عن غالفاو، الذي يتضمن الحديث عن خريطة أخرى يمكن ان ترجع تاريخ تصوير رأس الرجاء الصالح الى سنة 1408 م على الأقل (ودون ان ينتبه أيضا ان هذا يقوض فكرة الاكتشاف المزعوم من قبل الاسطول الاستكشافي الصيني في سنة 1421) وأضحت واحدا من اهم المفاتيح لفك اللغز حول الاكتشاقات الصيتية المزعومة.31
هذه الخريطة هي الخريطة الجزئية الشهيرة للاميرال العثماني بيري رئيس (الشكل 5) التي يحتمل انه ادرج فيها مادة خرائطية قد زعم فيما بعد انها وقعت بأيدي العثمانين في معركة بحرية مع الاسبان عام 1501 م. بالنسبة لمنزيس ان ما يهمه خاصة هو الجزء الجنوبي العربي للخريطة، لانه يفترض ان المعلومات الواردة فيها ترجع بصورة غير مباشرة الى الخريطة الصينية التي كانت، حسب زعمه أساس خريطة العالم البرتغالية لسنة 1428 م .
يحثا عن ادلة لدعم تصوراته، تنبه منزيس الى تصوير افريقيا المدهش بحداثته، خصوصا الساحل الشرقي منه كما عو في خريطة كانتينو “Cantino” (الشكل 6)، والتي ربما يرجع تاريحها الى 1502 م.32 وهذه الخريطة  >حيث يصور فيها ساحل شرق افريقيا بدقة توحي بأنه رسم بواسطة الملاحة عبر الأقمار الصناعية<33 يرى منزيس فيا >كنتيجة لمهارات الصينيين<. فيتسائل >من سوى الصينيين كان بمقدوره رسم هذه الخريطة المذهلة؟34< وبعد شرحه للأسباب المؤدية الى استبعاد البرتغاليين كأصحاب الخريطة المحتملين، يتسائل >أفمن الممكن ان يكون الملاحون العرب هم الذين رسموا هذه الخرائط؟<35 ويجيب منزيس دون تردد بالنفي لانه لم يتمكن من العثور على خريطة عربية مفصلة للساحل الشرقي لافريقيا في >المجموعة الكمالية في جغرافية مصر والقارة الافريقية لجامعها يوسف كمال< ((Monumenta Cartographica. > كان العرب يعرفون بالتأكيد طريقة حساب خطوط الطول من خسوف القمر، لكنهم لم ينجحوا ابدا في قياس الوقت بالدقة المطلوبة، وهذا بدوره هو الامر الذي توصل اليه الصينيون<36 لا يمكننيان اخوض هنا في التدقيق بكل ما اتى به منزيس من ادعائات واستنتاجات الا اتي اعترف بأنه محق في نقطة واحدة، وهي انه يستبعد دور البرتغاليين في انشاء خريطة كانتينو <Cantino>. وهذا ليس فقط لانه تنقصهم الأساليب لقياس خطوط الطول بالإضافة الى إمكانيات الحساب الدقيق للوقت، بل أيضا لان انشاء خريطة افريقيا او المحيط الهندي على هذه الدرجة من الواقعية يتطلب وقتا أطول بكثير مما يعتقده منزيس على ما يبد، علاوة على ذلك هو ذات الخطأ الذي يتكرر في كافة حججه. فالمحيط الهندي كان لعدة قرون نوعا من البحر الداخلي للبيئة الثقافية العربية-الإسلامية. فبالاصافة الى الأساليب التي اخترعوها لاستخراج خط الطول في اليابسة، ابتدع البحارة العرب في المحيط الهندي أساليب متطورة للغاية لقياس المسافات المقطوعة في البحر قي اتجاه الجنوب، من خلال الانحراف عن خطوط الطول وبموازاة خط الاستواء. فهذه الحالة تعادل قياس درجات الطول، وهي عبارة عن عملية تثليث  حقيقية تمكن من قياس معتمد للمسافات المقطوعة في عرض البحر وعبر الاوقيانوسات  (انظر الشكل 7). ان البيانات المسجلة في كتب الملاحة المحفوظة باللغة العربية  والتركية للقرنين التاسع  والعاشر الهجريين/الخامس والسادس عشر الميلاديين، تؤكد ان قياسات كافية كما ونوعا كانت متوفرة في الاوقيانوس الهندي بحيث كانت تسمح برسم خرائط قريبة جدا من الواقع. وهكذا فقد استطاع فيلهلم توماشيك (Wilhelm Tomaschek) إعادة صنع خرائط جزئية دقيقة للغاية من هذه المواد المتوفرة، وذلك في عام 1897، أي في وقت لم يعثر فيه بعد على اهم مصنفات الملاحة العربية.37
ومن اكبر تصورات منزيس جرأة ان اسطولا صينيا اجتاز رأس الرجاء الصالح واستمر بالابحار صوب الغرب، فأكتشف أمريكا, ورسم خرائط ساحلها، ثم عاد بعد ذلك الى الصين عبرالقطب الشمالي، على طول شواطئ أوروبا وأسيا.38 وقد نشب نقاش ساخن في أوروبا، في النصف الثاني من القرن السادس عشر ، حول وجود مثل هذه الطريق . ان بعض الخرائطيين الشهيرين مثل جيرار مركاتور ((Gerhard Mercator وابراهام اورتيليوس (Abraham Ortelius) يشكان في وجود مثل هذه الطريق، بينما كان جون دي (John Dee) يدافع عنها على أساس البيانات الواردة في جغرافيا ابي الفداء.39 بهذا الصدد انتبه منزيس الى أولى خارطتين للعالم (الشكل 8) اللتين رسمعما مارتن فالدزيمولر (Martin Waldseemueller ) عام 1507 40 وعبر عن استغرلبه بالعبارة التالية >ان خريطة قالدسيمولر التي نشرت في سنة 1507 تبين الساحل الشمالي لسبيريا، من البحر البيض في الغرب الى شبه جزيرة تشوكتشن (Tchouktchen) ومضيق بيرنج في الشرق. ويظهر فيها الساحل بأكمله مع الأنهار والجزر بوضوح. فأي قوم سوى الصينيين كانزا قادرين على القيام بقياس هذا القطاع الساحلي  بهذا الاتساع الهائل؟ كيف امكن انشاء هذه الخريطة، التي تظهر عليها بلدان لم يكتشفها الاوربيون رسميا لمدة ثلاثة قرون، ان لم يكن الصينيون قد سافروا اليها؟ ان القياسات الروسية ألاولى لسبيريا لم تتم الا بعد قرنين اخرين، وأول خريطة لروسيا لم تظهر الا في القرن التاسع عشر< .

شارك :

فعاليات

وسوم: